سورة الكهف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما الكلام في حقائق قولنا: {الحمد للَّهِ} فقد سبق، والذي أقوله هاهنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد، ألا ترى أنه يقال: سبحان الله والحمد لله إذا عرفت هذا فنقول: إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملاً لغيره، ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملاً في ذاته. ونهاية الأمر كونه مكملاً لغيره. فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا {سبحان الله} ثم ذكر بعده {الحمد لله} تنبيهاً على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد.
وهذا تنبيه على أن الإسراء به أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله، والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له، وإنزال الكتاب عليه يقتضي كونه مكملاً للأرواح البشرية وناقلاً لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية، ولا شك أن هذا الثاني أكمل.
وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاماً أن يصير (العبد) عالماً في ذاته معلماً لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيماً في السموات».
الفائدة الثانية: أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت، ولا شك أن هذا الثاني أكمل.
الفائدة الثالثة: أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} [الإسراء: 1] ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية، ألا ترى أنه قال: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ المؤمنين} والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة.
المسألة الثانية: المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق.
والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54].
المسألة الثالثة: إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا، أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر، وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم، وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب، وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} وفيه أبحاث:
البحث الأول: أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله: {قَيِّماً} إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] فقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} قائم مقام قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} وقوله: {قَيِّماً} قائم مقام قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} وهذه أسرار لطيفة.


البحث الثاني: قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد منه وجوه:
أحدها: نفي التناقض عن آياته كما قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82].
وثانيها: أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها ألبتة.
وثالثها: أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}. الصفة الثانية: للكتاب وهي قوله: {قَيِّماً} قال ابن عباس يريد مستقيماً وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل، بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه: {قَيِّماً} أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفال، والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم.
البحث الثالث: قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً.
وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} يدل على كونه كاملاً في ذاته، وقوله: {قَيِّماً} يدل على كونه مكملاً لغيره وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه.
البحث الرابع: اختلف النحويون في انتصاب قوله: {قَيِّماً} وذكروا فيه وجوهاً.
الأول: قال صاحب الكشاف لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأن قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} معطوف على قوله: {أَنَزلَ} فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالاً من {الكتاب} يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير: ولم يجعل له عوجاً وجعله قيماً.
الوجه الثاني: قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} حال وقوله: {قَيِّماً} حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجاً قيماً.
الوجه الثالث: قال السيد صاحب حل العقد يمكن أن يكون قوله: {قَيِّماً} بدلاً من قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} لأن معنى: {لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا} أنه جعله مستقيماً فكأنه قيل: أنزل على عبده الكتاب وجعله قيماً.
الوجه الرابع: أن يكون حالاً من الضمير في قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي حال كونه قائماً بمصالح العباد وأحكام الدين، واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه: أنزل على عبده الكتاب الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله: {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] إلا أنه اقتصر هاهنا على أحدهما وأصله {لّيُنذِرَ} الذين كفروا {بَأْسًا شَدِيدًا} كما قال في ضده: {وَيُبَشّرُ المؤمنين} والبأس مأخوذ من قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأساً وبآسة وقوله: {مِن لَّدُنْهُ} أي صادراً من عنده قال الزجاج وفي: لدن لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد، قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى: {وَيُبَشّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين، ولما كان دفع الضرر أهم عند (ذوي) العقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ، قال صاحب الكشاف وقرئ {ويبشر} بالتخفيف والتثقيل وقوله: {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا}، قال القاضي: الآية دالة على صحة قولنا في مسائل، أحدها: أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير.
الثاني: وصفه بكونه كتاباً والكتب هو الجمع وهو سمي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث.
الثالث: أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة.
الرابع: أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق.
وثانيها: مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه:
الأول: نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلاً بنفسه، أما إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيماً أثر في استقامة فعله، أما إذا كان العبد قادراً على الفعل مختاراً فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله.
والثاني: أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك.
والثالث: قوله: {لّيُنذِرَ} وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلاً قصيراً وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه.
والرابع: وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم ألبتة.
الخامس: إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق.
المسألة الرابعة: قال قوله: {لّيُنذِرَ} يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض، واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة.


{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} معطوف على قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب.
والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً، وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى: {وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] فكذا هاهنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
المسألة الثانية: الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف.
أحدها: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
وثانيها: النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله.
وثالثها: اليهود الذين قالوا: عزيز ابن الله، والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] وتمامه مذكور في سورة مريم، ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين:
الأول: قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبائهم} فإن قيل اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل {ما لهم به من علم}؟ قلنا: انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به. ونظيره قوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا: هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل، والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلاً وتمام تقريره مذكور في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقوله: {وَلاَ لآبائهم} أي ولا أحد من أسلافهم، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة.
النوع الثاني: مما ذكره الله في إبطاله قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وفيه مباحث:
البحث الأول: قرئ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً} بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية، قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراء، فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار، أما من رفع فلم يضمر شيئاً كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة.
البحث الثاني: قوله: {كَبُرَتْ} أي كبرت الكلمة. والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة.
البحث الثالث: احتج النظام في إثبات قوله: أن الكلام جسم بهذه الآية قال: إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة؛ والحركة لا تصح إلا على الأجسام.
والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق، فلما كان خروج النفس سبباً لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة.
البحث الرابع: قوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل؛ كأنه يقول: هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} ومعناه ظاهر، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب. فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا؟ ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق، وهذا القيد عندنا باطل، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً، مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه باطلاً، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم، ثم قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} وفيه مباحث:
البحث الأول: المقصود منه أن يقال للرسول: لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه. والغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عنه.
البحث الثاني: قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء.
وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد. يقال: بخعت لك نفسي أي جهدتها، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك.
وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى: {باخع نَّفْسَكَ} أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا: قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه، هكذا قال الواحدي.
البحث الثالث: قوله: {على ءاثارهم} أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية، فإذا كان موته قريباً من موت الأول كان موته حاصلاً حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان.
البحث الرابع: قوله؛ {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} المراد بالحديث القرآن.
قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول: إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة.
البحث الخامس: قوله: {أَسَفاً} الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله: {غضبان أَسِفًا} في سورة الأعراف [150] وعند قوله: {يا أسفي على يُوسُفَ} [يوسف: 84] وفي انتصابه وجوه:
الأول: أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف.
الثاني: يجوز أن يكون مفعولاً له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير.
والثالث: قال الزجاج: {أَسَفاً} منصوب لأنه مصدر في موضع الحال.
البحث السادس: الفاء في قوله: {فَلَعَلَّكَ} جواب الشرط وهو قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} قدم عليه ومعناه التأخير.


{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي: وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم. فأنت أيضاً يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
المسألة الثانية: اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن، وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض. وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان.
وقال القاضي: الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به، وقوله: {زِينَةً لَّهَا} أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب.
أما قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود، فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز، واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجباً فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلاً له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً بل يكون موجباً بالذات وأيضاً فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال: يجري قوله تعالى: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} على ظاهره.
وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا: إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الابتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً كثيرة.
المسألة الثانية: قال القاضي: معنى قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمراراً على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى، فدل ذلك على بطلان قول من يقول: خلق بعضهم للنار.
المسألة الثالثة: اللام في قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ} تدل ظاهراً على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة، وأصحابنا قالوا: هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة، وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال.
المسألة الرابعة: قال الزجاج: {أيهم} رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملاً أم ذاك، ثم قال تعالى: {وإن لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً أبداً لأنه يزهد فيها بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} الآية ونظيره قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] وقوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً} [طه: 106] الآية، وقوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] الآية. والمعنى أنه لابد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض، وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضاً لا تبقى وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم، وأما الجرز فقال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات عليها، يقال: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها، وامرأة جروز إذا كانت أكولاً، وسيف جراز إذا كان مستأصلاً، ونظيره قوله تعالى: {نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز} [السجدة: 27].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8